امبراطورية إعادة البناء عبر التدمير

هذا المبدأ الذي طرحه الفيلسوف الامريكي نعوم تشومسكي، يذكرنا بالطرح الذي أعلن عنه رئيس الاتحاد السوفياتي السابق ميخائيل كربتشوف لإنقاذ انهيار الاتحاد السوفياتي من خلال الاستفتاء على الحرية الدينية، فأبى الشعب إلا أن يكون الاستفتاء على الحرية بكل أشكالها، ولكن لم ينجح هذا الإجراء وكانت النتيجة السقوط المدوي الذي ترك آثاره على الاتحاد السوفياتي والعالم.

تنتج كل ثورة حضارية أليات وجودها في المجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعسكري والسياسي،  وفي ظل ثورة المعلومات يطلّ علينا القرن الواحد والعشرين بولادة عهد جديد يقوم على معطيات ثورة أنتجتها الولايات المتحدة ووضعت مرتكزاتها، لكنها اليوم  بحاجة الى انطلاقة جديدة (عولمة جديدة)، مما يتطلب أحداث كبيرة والتغلب عليها، وعلى ما يبدو أن جائحة كورونا، هي الانطلاقة لرسم معالم النظام العالمي الجديد مثلها مثل أحداث مفصلية في التاريخ (ويستفاليا، سقوط جدار برلين، انهيار بنك ليمان براذرز).

ففي ظل ظروف التفشي المتسارع للفيروس في جميع أنحاء العالم وتعطيل الحياة في العديد من الدول وإغلاق الأسواق وتعطيل حركة السفر والإضرار بالاقتصاد العالمي، برزت كفاءة حكومات وكشفت فشل حكومات أخرى. فالأمر ينذر بأزمة اقتصادية عالمية وأعادة هيكلة النظام العالمي (عالم أكثر توحشاً)،  يصعب تخيل عواقبه على المدى القريب لاسيما في ظل الانتقال للحروب البيولوجية، ومن الممكن أن نشهد عودة القطبية الثنائية (صينية-أمريكية)، لكن بعد حرب قوية قصيرة لفرض الهيبة الدولية.

بشكل عام يمكن تحديد بعض النقاط التي يمكن أن تتشكل ما بعد جائحة كورونا:

-يبدو أن عالم ما بعد فيروس كورونا لن يشهد استمرار لزعامة بعض الدول في ظل فشلها وافتقارها  للإدارة والكفاءة، وسيبدو العالم أقل انفتاحاً وأقل حرية  وأقل ازدهاراً ويتحول مركز السلطة والنفوذ للدول التي استطاعت أن تسيطر على الوباء، والعمل على تحويل علامات النجاح المبكرة إلى رواية أكبر يتم بثها إلى بقية العالم لاسيما أن دول مثل الصين استخدمت أحدث التقنيات لمكافحة فيروس كورونا (البيانات الكبيرة أو Big data، Alipay Health Code، الذكاء الاصطناعي).

-على المستوى الداخلي حيث ستساهم جائحة كورونا في تقوية دور الدولة وتعزيز الوطنية، وسوف تتبنى الحكومات في مختلف أنحاء العالم إجراءات طارئة لإدارة الأزمة المتمثلة في تفشي الوباء، لكن العديد من تلك الحكومات لن ترغب في التخلي عن السلطات الجديدة عندما تنتهي الأزمة.

-ومن المتوقع أن يتعرض النظام الدولي لضغوط كثيرة بسبب الفيروس الذي اجتاح معظم دول العالم خلال الأسابيع الأخيرة، وأدى إلى تراجع النشاط الاقتصادي وزيادة التوتر بين البلدان، مما قد يؤدي إلى عدم الاستقرار وإلى نزاع واسع النطاق داخل بعض الدول وإجراءات اقتصادية جديدة كقرار ترامب تفعيل قانون الإنتاج الدفاعي، نادر الاستخدام دون إثارة، رغم أن هذا الإجراء من أهم الإجراءات المتخذة لمواجهة كورونا.

– بروز توجه جديد في التعامل مع ما يجري حالياً والتعامل مع ملمات سابقة، بالخوف الجماعي الناجم عن التوقع. واستجابة جماعية منقطعة النظير بالحجر الصحي الارادي، فاقت استجابة الناس للدعوة الدينية.

-إن الجائحة  ستؤثر على الاتجاهات الاقتصادية العالمية، وسوف تساهم في تسريع التغيير الذي كان قد بدأ بالفعل، وهو الانتقال من العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة الى دول جديدة كالصين.

– تجديد الخطاب الديني في العالم أجمع، حيث أن دور الدين بمفهومه التقليدي الموروث سوف يضعف، لأنّ الخطاب الديني  قد لا يستطيع الإجابة على بعض الأسئلة التي سيوجهها الناس في المرحلة القادمة، وهذا سيدفع الناس إلى خطاب ديني أقرب إلى عقولهم وإلى قدرتهم على التفاعل مع هذا الواقع، وعلى هضم التغيرات الكبرى التي ستعصف بالبشرية في السنوات القليلة القادمة.

– تغير منطق الحروب العالمية الذي أدير بمنطق السعي نحو هدم وأعادة تنظيم النسق الجيو-استراتيجي العالمي من أجل حلّ المشاكل المستعصية التي تتربص بالعالم، وتؤرق بال السياسيين، وهي مشاكل تنبع من صميم منظور المالتوسية لحركية العالم ومن مبدأ إعادة البناء عبر التدمير.

-سنشهد تغيّر في أنماط الحياة: البيع والشراء، نوع العملة، الضرائب، غياب كبير لفرص العمل، بروز دور كبير للروبوت.

إذاً بات فيروس كورونا هو الصدمة التي نحتاجها للاستيقاظ من سباتنا الدوغمائي باستثنائيتنا، والخروج من يقيننا الخادع بتفوقنا على كلّ من وما حولنا. هي رسالة بأن نتواضع بقدراتنا ومكانتنا ونعترف بأن فرادة الإنسان تكمن في اختلافه لا في سيادته، وبأن العالم يحوي فائض وجود وأشكال حياة لا متناهية لم تعدّ استراتيجية السيطرة هي الخيار الصائب. فالأزمات تسرِّع حركة التاريخ وتكثف تحولاته، ونحن نعبر أزمة من هذه الأزمات النادرة في التاريخ، وعلى العموم فالبشرية اليوم أمام خيارين: إما أن يتضامن الناس مع بعضهم ويصلوا إلى حالة من الارتقاء الإنساني العالمي، لاسيما أن هذه الأزمة لا تحلّ إلا بتضامن عالمي، أو أن ينكفئ الناس كل على مصلحته الضيقة، فتتعاظم الأنانية ويزداد الجشع.

لقد كشف فيروس كورونا عن عجزٍ عالميٍّ غير متوقع في محاربته كوباءٍ، وقد ظنّت البشرية أنّها قد تجاوزته لأنّنا احتفلنا جميعاً منذ عقودٍ من الزمن بأنّ الإنسان قد انتصر، واستطاع أن يهزم الأمراض.