من فجّر لبنان ولماذا يستمر التفجير فيه وفي غيره؟ مقولة في أصل الأسباب

"غارقة حتى رأسي في تصنيع الملوك والحكام" بهذه الجملة أجابت جروترد بل على محادثة عائلية إثر نشاطها وحضورها الفاعل في مؤتمر القاهرة الذي عقد في 12 آذار- مارس 1921.

 وكما ينقل بتفصيل شديد كل من كارل ماير وشارلين بلير بريزاك في كتابهما الهام، صناع الملوك اختراع الشرق الأوسط الحديث، لم تكن "مس بل" الشخصية الوحيدة التي ساهمت في انشاء وتخليق دول الشرق الأوسط، بل ساهم في ذلك اللورد كرومر وإفيلين بارينج وفلورا شو، وسايكس وبيكو ولورنس وبيرسي كوكس… وغيرهم كما ساهم في تخليق هذا الواقع المتفجر الذي نراه يتكرر منذ أكثر من مئة عام طموحات وخطط كلٍ من الإمبراطورية البريطانية والامبراطورية الروسية و الفرنسية إضافة إلى دور الإمبراطورية الألمانية. يستفيض ماير وبريزاك في توصيف دور كل شخص ودولة غربية معتمدين على وثائق الأرشيف البريطاني التي أتيح بعضها في تشكيل الخارطة السياسية و الهوياتية للمنطقة قبل الحرب العالمية الأولى بعقود وما تلاها، وأهداف هذا التخليق المتعمد لـدول والهويات في المنطقة.

اذاً، لماذا يعيش مفهوم الدولة "المخلّقة" حالة استقطاب دائم وتفجُّرٍ متواصل سواء كان هذا التفجر اجتماعياً أو سياسياً أو ثقافياً؛ أو كان تفجيراً حقيقياً كما حصل في بيروت منذ أيام.

بنيت "الدولة" التي نعيش فيها على أكتاف التصور الغربي لمفهوم الدولة، وعلى تصورات ومصالح أفراد ودول من خارج المنطقة التي نعيشها، وعلى حركية ثقافية وفكرية مختلفة عن حركية المجتمع الثقافية وطبيعته، فأنتجت دولاً بالمعنى الصوري لا بالمعنى الحقيقي لمفهوم الدولة. دولاً تحظى بالتفجر الدائم والمتواصل وغير قادرة في أصل نشأتها على تلبية طموحات من يعيش في إطار حدودها المرسومة، بما يضمن بقاء حالة الاستقطاب والتفجر المتتالي.

هذه الدول عموماً من أقصى شرق " الشرق الأوسط" إلى أقصى غربه لم يظهر بها أي تيارٍ سياسي قوي ذو امتداد مجتمعي حقيقي وثابت يعترف بوجودها كما هي. ففي الحالة السورية مثلاُ نشأت تيارات سياسية منذ "الاستقلال" بمجملها ترى في هذه الحدود إحدى حالتين: الأولى أنها- الحدود السياسية- أضيق من رؤيتها للدولة المتصورة، وعبر عن هذا التوجه التيار القومي العروبي أو التيار القومي السوري الاجتماعي، أو التيار الاسلامي؛ وتيار آخر اضمحل في سوريا، وقد يعاود الظهور، يرى في المناطقية أو التحيز إلى ما دون الحدود الحالية فرصة للخلاص.

تشير أدبيات السياسة المقارنة إلى حالة "الدولة" المبنية على أنقاض الانقطاع الثقافي مع ما سبقها من سيرورة ثقافية واجتماعية ووفق تصورات مستمدة من براديغمات التبعية، بتعبير الديناميات اليتيمة. فالدولة اليتيمة التي نشأت وفق هذا الشرط تحمل بشكل دائم أسباب التفجر والفساد والتسلطية ووهن المشاركة السياسية والضعف المؤسساتي.

ومع أن باحثين كبار في العلوم السياسية كانوا قد قدموا تصورات لمعالجة الخلل الهيكلي في ولادة هذه الدول، كما اقترح مثلاً صموئيل هنتنغتون في كتابه النظام السياسي لمجتمعات متغيره والمنشور في أواسط القرن الماضي، إلا أن مجمل هذه الاقتراحات التصحيحية رغم أهميتها الأكاديمية إلا أنها غير ممكنة التطبيق بل ثبت فشلها، وإعادة انتاجها لذات المنظومة من عدم الاستقرار. فهذه الاقتراحات التصحيحية يمكن أن تكون مفيدة لحالة دولة نشأت بفعلٍ ذاتي ووفق سيرورة تطورية ذاتية، أما تطبيقها على حالة الديناميات اليتيمة أو "المجتمعات المتغيرة" كما يصفها، غير ممكن البتة. فهنتنغتون مثلاُ يوصف حالة مواطني دولنا بقوله " ولائهم للدولة غير ثابت وتطابقهم مع الزعماء ليس قوياً، وأكثر من ذلك، يسود مناخ من الارتياب العام وفقدان الثقة بأولئك الذين يحكمون" وهذا التوصيف دقيق إلى حدٍ بعيد إلا أن أسبابه لا تكمن كما يدعي هنتنغتون في أصل النظام الثقافي، وإنما يعود لأسباب أخرى هي في الأصل حالة عدم الإحساس بـ " الدولة" لأنها أساساً ولدت بعيداً عن سيرورتهم الثقافية وخارج اطار فعلهم الذاتي، مبتعدة في أصل نشأتها عن رؤيتهم وطموحاتهم.        

 أما مقولة "مدى الدولة" و "قدرة الدولة" التي طرحها فرانسيس فوكوياما في كتابه بناء الدولة ورغم أهميتها في حالة الدولة المبنية بشكل ذاتي، إلا أنها غير كافية لإصلاح الوضع المتردي للدولة في منطقتنا، وكما يقول فوكوياما في معرض استدراكه لأكثر العوامل أهمية في تحديد فعالية الدولة إذ يقول " يرتبط مظهر الدولة بتصميم الجسم المؤسساتي، ولكنه في الوقت نفسه يتجاوزه بتضمين بعدٍ معياري للجهاز برمته، أي لا يجب أن تعمل مؤسسات الدولة معاً كما ينبغي بالمفهوم الاداري بل يجب أيضاً أن ينظر إليها كمؤسسات شرعية من قبل المجتمع التحتي"

إذاً، تشكل مسألة شرعية المؤسسات ودور المجتمع التحتي في بناء هذه المؤسسات نقطة الفصل الحقيقية بين الدولة التي يمكنها انتاج الاستقرار، وبين الدولة المولّدة لحالة عدم الاستقرار نتيجة تشكلها وفق حالة فوقية من الاشراف والتنفيذ والتصميم.

فحالة دولنا عموماً كانت قد صممت من قبل رؤية خارجة عن بناها المجتمعية المؤسسة، وبعيدة عن منظومتها الاجتماعية والثقافية والفكرية، ورسمت وفق اعتبارات هادفة إلى إدامة التشظي وليس إلا خلق الاستقرار.

ولذلك، فإن الخلاص من حالة التفجر المتتالي، والاستقرار الغائب، والتسلط، والاستبداد، لا يتوقع له أن ينجح ما لم يعَاود تأسيس الحالة القادمة من "الدولة" على أسس جديدة، تبدأ من المجتمع التحتي و أنساقه الأساسية وتستلهم رؤيته الثقافية والفكرية وتعطيها أساس شرعيتها المولدة للاستقرار، بعيداً عن الرؤية الخارجية للإصلاح أو التحديث أو التخليق للدولة من قبل ثقافاتٍ أخرى. مع الاقرار بأن هذا الافتراض التصحيحي لا يعني عدم الاستفادة من الثقافات الأخرى وتجاربها وآلياتها، بل يعني توافر الإرادة المجتمعية القائمة على أسسها الذاتية وهويتها الجامعة، وخلق ديناميات التطور الذاتي القائمة على متغيراتها الثقافية والدينية والاقتصادية والسياسية الخاصة. 

عن د.عبادة تامر

دكتوراه في العلوم السياسية. أستاذ جامعي وباحث أكاديمي.

شاهد أيضاً

روسيا… سجل أسود في التجويع ومنع وصول المساعدات الإنسانية

تمتلك روسيا سجلاً أسود في تاريخ منع المساعدات الإنسانية في الكثير من الأزمات الدولية التي …