بعد إفلاتهم في سوريا … هل سيخضع القادة الروس للمساءلة عن جرائمهم في أوكرانيا؟

يبدو أن مصطلح “العدالة ليست للجميع” مخصص فقط للشعب السوري الذي فقد مئات الآلاف من الضحايا دون أن تتحرك عجلة العدالة الدولية لمحاكمة المسؤولين– بما فيهم القادة الروس- عن الجرائم التي ارتكبوها بحق الضحايا بالرغم من مرور أحد عشر عاماً على بدء المأساة السورية، وذلك بسبب التجاذبات وعدم وجود إرادة سياسية على تقديم هؤلاء إلى العدالة الدولية.

لكن الوضع في أوكرانيا يبدو مختلفاً بعض الشيء، فقبل مرور عشرة أيام على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان فتح تحقيق بشأن الوضع في أوكرانيا للتحقّق فيما إذا كانت هناك جرائم حرب قد اُرتكبت في هذا البلد بناء على طلب أربعون دولة من الدول الأطراف في نظام روما الأساسي. وفي موازاة ذلك بدأت الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الغربية بما فيها الاتحاد الأوروبي والمنظمات الحقوقية غير الحكومية، سلسلة من الإجراءات للتحقيق في الجرائم التي أرتكبها القادة الروس في أوكرانيا خاصة بعد مذبحة بوتشا، إلى جانب التحقيقات التي يقوم بها خبراء المحكمة الجنائية الدولية ولجنة التحقيق المنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الأمر الذي أدى إلى توفير كميات هائلة من الأدلة على الانتهاكات التي ارتكبتها القوات الروسية داخل الأراضي الأوكرانية التي تخضع لولاية المحكمة الجنائية الدولية.

القادة والجنرالات الروس الذين تبجَّحوا بتجريب أكثر من 320 نوع جديد من الأسلحة في سوريا راح ضحيتها الآلاف من المدنيين، إمّا قتلوا في أوكرانيا مثل الجنرال أندريه بالي نائب قائد القوات الروسية في سوريا، والجنرال فيتالي جيراسيموف الذي قاتل في سوريا أيضاً ويعد من أبرز القادة العسكريين باعتباره كان يشغل رئيس أركان الجيش 41 الروسي، أو ينتظرون المساءلة الجنائية الدولية التي لن يفلتوا منها هذه المرة كما أفلتوا من جرائمهم في سوريا.

خلال الفترة ما بين 1943-1952 حاكم الاتحاد السوفيتي السابق أكثر من 82 ألف شخص كمجرمين نازيين أو متعاونين معهم عن جرائم حرب اُرتكبت خلال الحرب العالمية الثانية بما فيها تلك التي وقعت خلال الاحتلال النازي لمدن أوكرانية مثل خاركيف وكييف التي ترتكب فيها روسيا اليوم جرائم مماثلة وربما أكثر فظاعة. كما لعب الاتحاد السوفيتي دوراً فعالاً في إنشاء محكمة نورمبرغ التي حاكمت 24 مسؤولاً كبيراً في القيادة السياسية، والعسكرية، والقضائية، والاقتصادية في ألمانيا النازية، وحكمت المحكمة على 12 منهم بالإعدام شنقاً حتى الموت. ويبدو أن التاريخ يكرر نفسه، فالغزو الروسي لأوكرانيا العام 2022 يشكل جريمة عدوان بموجب القانون الدولي، وهي ذات التهمة الأساسية التي وجهت لكبار قادة ألمانيا النازية في محاكمات نورمبرغ والضباط اليابانيين في محاكمات جرائم الحرب في طوكيو بعد الحرب العالمية الثانية، وأسفرت عن إدانة ثلاثين من الجناة بشن حرب عدوانية. وإلى جانب جريمة العدوان الشاملة التي ارتكبتها روسيا في عمليتها العسكرية في أوكرانيا، تواصل القوات الروسية ارتكاب أنواع مختلفة من الجرائم مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.

المحكمة الجنائية الدولية حتى الآن لا يمكنها مساءلة القادة الروس عن جريمة العدوان بسبب عدم اتفاق الأطراف في نظام روما الأساسي على تعريف موحد لهذه الجريمة وتحديد أركانها بشكل واضح، لكنها تستطيع تحريك الدعوى ضد هؤلاء بسبب ارتكابهم جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية على الأرض الأوكرانية التي تقع تحت ولاية المحكمة الجنائية.

لقد ساهمت التغطية الإعلامية غير المسبوقة للغزو الروسي لأوكرانيا في توفير الآلاف من الأدلة على ارتكاب القوات الروسية لجرائم حرب، مما يجعل من الصعب على القادة الروس التذرع بالجهل بشأن الجرائم الفظيعة التي تحدث في أوكرانيا، من قبيل استهداف البنية التحتية المدنية بما في ذلك المباني السكنية والمستشفيات والكنائس والمدارس والمواقع الثقافية، واتباع تكتيكات الحصار لتجويع المدنيين وإجبارهم على الفرار كلاجئين، بلغ عددهم حتى الآن خمسة ملايين لاجئ، واستخدام أنواع معينة من الذخائر المحرمة دولياً مثل القنابل العنقودية والفراغية، وقتل المدنيين ودفنهم في مقابر جماعية كما حدث في بوتشا، كل هذه الأعمال تمثل جرائم حرب واضحة تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، إلى جانب الجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب كجزء من هجمات واسعة النطاق أو منهجية موجهة ضد السكان المدنيين، مثل القتل، والتهجير القسري للسكان، والاضطهاد ضد مجموعات محددة من المدنيين، والعنف الجنسي، إضافة إلى جرائم أخرى تندرج ضمن فئة جرائم الإبادة الجماعية التي تتطلب التدمير المتعمد لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بالكامل أو لجزء منها، وإن كان إثبات نية الإبادة الجماعية لكبار القادة الروس أمراً صعباً.

وبالرغم أن الولايات المتحدة ليست طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنها يمكن أن تزود المدعين العامين بالمزيد من الأدلة والمعلومات الاستخباراتية، وصور الأقمار الصناعية لتحركات القوات الروسية، وشهادات اللاجئين التي من شأنها أن تدعم جهود التحقيق التي تبذلها المحكمة. كذلك يمكن لواشنطن أن تقود مبادرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة بالاتفاق مع أوكرانيا لتشكيل محكمة خاصة لمحاكمة المسؤولين الروس المتورطين بارتكاب جرائم دولية على الأراضي الأوكرانية على غرار المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة التي أنشأت بقرار من مجلس الأمن العام 1993، والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا التي أنشأت أيضاً بقرار من مجلس الأمن العام 1994، وهناك تجارب مماثلة في سيراليون وكمبوديا ولينان. هذه المحكمة الدولية الخاصة يمكن أن تقاضي روسيا عن جريمة العدوان التي تقع حالياً خارج ولاية المحكمة الجنائية الدولية.

إلى جانب محاكمة القادة الروس الذين ستلاحقهم هذه المحاكم الدولية وتطالب بتسليمهم، خاصة في حال انهزمت روسيا في هذه الحرب وانتصرت الإرادة الدولية التي توحدت إلى جانب أوكرانيا، ستلزم روسيا بدفع تكاليف الحرب وإعادة الإعمار وتقديم تعويضات للشعب الأوكراني. وهو ما يذهب إليه الباحث في مجلس العلاقات الخارجية ديفيد جي شيفر الذي يرى بأنه لا ينبغي لروسيا أن تتوقع أن تقوم الدول الغربية لوحدها بإعادة تأهيل أوكرانيا كما عملت في خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية، بل على موسكو أن تتحمل كامل هذه التكاليف لوحدها.

الوضع في أوكرانيا يختلف بشكل كبير عما عليه في سوريا بالنسبة إلى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية التي لا تمتلك ولاية على الجرائم التي اُرتكبت في سوريا، لأن الأخيرة ليست طرفاً في نظام روما الأساسي ولا حتى روسيا الأمر الذي شكل عائقاً قانونياً أمام المدعين العامين للمحكمة لتحريك الدعوى ضد المسؤولين عن هذه الجرائم. كما فشل مجلس الأمن في إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية بسبب الفيتو الروسي. هذا الفشل عبر عنه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال كلمته التي وجهها إلى مجلس الأمن عبر الفيديو في الخامس من الشهر الجاري بقوله ” أين الأمن الذي يحتاج مجلس الأمن أن يضمنه؟” وأضاف في نبرة تهكمية “بدلاً من اتخاذ إجراءات قوية لردع عدوان روسيا أو حتى إدانته، تحولت الهيئة إلى مجرد مكان لإجراء المناقشات”.

لقد مثلت الحرب في أوكرانيا أكبر اختبار للأمم المتحدة التي أنشأت قبل 77 عاماً بهدف صريح وهو “انقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب” كما ورد في ديباجة الميثاق. ومع شل مجلس الأمن بسبب الفيتو الروسي، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان كما يقول الباحث ومدير مؤسسة الحوكمة العالمية جيمس إتش بينجر هو ما إذا كانت الأمم المتحدة ستكرر تاريخ سلفها المشؤوم، عصبة الأمم؟ التي فشلت في وقف الحروب العدوانية الفاشية والنازية في ثلاثينيات القرن الماضي. ما كشفت عنه الأزمة الأوكرانية وقبلها السورية هو القيود التي وضعها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية عن عمد وليس خطأً بأن أي هيكل للسلام الدولي يعتمد على إجماع القوى العظمى، ومنحت هذه القيود الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الذين باتوا أوصياء على النظام العالمي، سلطة عرقلة أي إجراء تنفيذي للأمم المتحدة يرون أنه يتعارض مع مصالحهم الوطنية من خلال استخدام حق النقض “الفيتو”.

عن د.وسام الدين العكلة

شاهد أيضاً

شهر المحاسبة… والوعود الأميركية بعدم الإفلات من العقاب في سوريا

توعدت السفارة الأميركية في دمشق نظام بشار الأسد بالمحاسبة على الجرائم الفظيعة التي ارتكبها خلال …

اترك تعليقاً